Top Ad unit 728 × 90

مقالات

نقد سينمائي

السوريالية..السينما و اللاوعي


 الكاتب: نورالدين بوخصيبي

-1-
  لماذا السوريالية؟ سببان على الأقل يدعوان إلى الاهتمام بموقف الحركة السوريالية من السينما. أولهما أن السوريالية ليست حركة سينمائية خالصة، كما هو عليه الشأن بالنسبة لحركات أخرى نبعت من صلب الممارسة السينمائية. و هذا الأمر يساعدنا على استكشاف كيفية تبلور الرؤية السينمائية في فكر و إبداع واحدة من أكبر و أهم المدارس الفنية المعاصرة؛ و ضمن أية دينامية تم إدماج الممارسة الفيلمية ضمن النسق العام لهذه النزعة الإبداعية المتفجرة.
  ثانيهما أن السوريالية، منذ البدايات الأولى لنشأتها، أبدت حماسا شديدا اتجاه السينما، معتبرة إياها بمثابة فتح عظيم في تاريخ الإبداع البشري يحضر في لحظة ضرورية له، هي لحظة الانهيار الشامل للثقافة البورجوازية، بل لكل فنون الماضي.
  و يمكن أن نضيف إلى هذين العاملين عاملا ثالثا يدعو إلى الاهتمام بهذه العلاقة المثيرة، هو أن السوريالية أولت اللاوعي مكانة بارزة إن لم نقل مكانة مركزية بوصفه اللغز الخلاق للعملية الإبداعية.
- 2-
  في محاولة لتفسير هذا الشغف الغريب أو الغرائبي بالسينما لدى جماعة السوريالية، يقدم صاحبا كتاب "السورياليون و السينما" ثلاثة روافد ضرورية ضمن حساسية جديدة تبلور في إطارها الموقف السوريالي من السينما.
-       الرافد الأول يتمثل في ميراث الحركة الداندية بما هي حركة استفزازية متمردة، تتجه نحو كل ما يرفضه أصحاب الذوق الرفيع، و من ضمنه بالأساس السينما التي كانت لا تزال مهمشة في بداية القرن العشرين؛ و لم تكن الطبقة البورجوازية قد أدمجتها بعد ضمن نسقها القيمي. و لم يسلم عشق السينما بدوره من هذه الروح الاستفزازية لهذه الحركة. تمثل ذلك في تفضيل ارتياد القاعات السينمائية الشعبية، في الشغف بالأفلام التافهة، و في رفض الجماليات السينمائية. بل إن الشاعر السوريالي أندري بروتون تبنى موقفا أكثر استفزازا و فضائحية تمثل في عدم احترام البرامج السينمائية، و في عدم الالتزام بأوقات العروض، شأنه في ذلك شأن الرسام و المخرج الأمريكي مان راي و شأن الكاتب الفرنسي جاك فاشي.
أندري بروتون

-       الرافد الثاني يمثله الدور الذي لعبه الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير (1880- 1918)  بمعية شعراء آخرين. من جهة كان اهتمام أبولينير منصبا على الأفلام الشعبية "المنفلتة" من النزوع المثقفي الخالص. و قد دشن أبولينير أفقا جديدا للتفكير في السينما هو الأفق الشاعري الذي سيجد امتداده لدى شعراء آخرين من بينهم بشكل خاص شعراء السوريالية. كان أبولينير أول من تنبأ بأن الفيلم سيكون اللغة المستقبلية، و دعا الشعراء إلى الاهتمام بالسينما التي هي حسب قوله "الملحمة الجديدة التي ستلتقي حولها كل الفنون".
  من أبرز الشعراء الذين تبنوا دعوة أبولينير المناصرة للسينما، الشاعر فيليب سوبو الذي وجه سنة 1917 دعوة إلى الشعراء بهدف "تهيئ أنفسهم لهذا الفن الجديد". يقول: " على المبدع و الشاعر أن يستعينا بهذه القوة و هذه الثروة التي ظلت مهملة حتى الآن، لأن عنصرا جديدا يحضر ليكون في خدمة خيالهما".
  عموما كانت هناك ابتداء من سنة 1917 حمى عارمة باتجاه الفيلم. "حمى انتقلت عدواها إلى السورياليين الذين كانوا آنئذ في فترات شبابهم". و هكذا فقد دعا الشاعر الكبير لويس أراغون منذ سنة 1918 إلى ضرورة أن تأخذ السينما "مكانا ضمن انشغال حركات الطليعة الفنية". كانت هناك إشادة عامة للمجلات بالسينما. إشادة، إعجاب بل و انبهار تعكسه الأقوال التالية:
  "يبدو لي أن اكتشاف السينما في الأزمنة الحديثة يعادل تقريبا اكتشاف المطبعة في القرن الخامس عشر" (دومينيك براغا)
 " أريد أن أقول لكم إن السينما هي أبي. إنني أدين لها بالحياة و أعشقها. إن السينما هي القرص الحيوي بالنسبة للأدب. القرص الذي يمده بالدم و اللون" (جوزيف دلتيل)
  " يمكن أن يكون الفيلم هو القصيدة بامتياز، لأنه يتموقع داخل الديمومة الخالصة" (أندري بوكلير)
  و فيما بعد سوف يكتب الشاعر بول إيلوار شيئا شبيها بذلك: " اكتشفت السينما عالما جديدا في متناول كل الأخيلة، شأنه في ذلك شأن الشعر".
-       الرافد الثالث يمثله موقف الحركة الدادائية Dadaïsme من السينما. و هو موقف يتميز أولا بتشوشه و عدم تجانسه، و يتميز ثانيا بطابعه السلبي، مادامت الأفلام التي أنتجتها الحركة الدادائية تشكل في واقع الأمر أفلاما مضادة، ذلك لأن الأمر لم يكن يتعلق بالنسبة للمخرج "مان راي"، على سبيل المثال، بإضافة أفلام أخرى إلى الرصيد السينمائي، و لا بالاشتغال في اتجاه يدعم السينما الطليعية، و إنما في العمل على تحقيق انقلاب شامل ضدا كل القواعد السينمائية كما يتجلى ذلك بشكل خاص في الفيلم القصير لمان راي بعنوان "دعوة إلى العقل" الذي قدم سنة 1923.
- 3-
     لا يكتفي أندري بروتون و جماعته السوريالية برفض الثقافة البورجوازية و الفن البورجوازي المنهارين، بل يمضي السورياليون إلى التصريح مرارا بأن لا صلة تجمعهم بالأدب، و بأن حركتهم لن تكون أبدا مدرسة أدبية أو فنية. و ينبع الاهتمام بالسينما من سياق خاص يعبره هاجس البحث عن أشكال و صيغ جديدة للتعبير، مثلا الأوراق الملصقة للرسام الشهير بابلو بيكاسو، لماكس إرنست، لراوول هوسمان، و لجورج هونييت. أو عملية التنقيل التي كان الكاتب و الشاعر أندري بروتون يأمل القيام بها. يتعلق الأمر بتنقيل أشياء سوريالية، أي مجانية و شبيهة بالأشكال التي نراها في أحلامنا. و ضمن هذا المنظور بدا الفيلم بمثابة أداة مثالية لاستقصاء العالم السوريالي، بمثابة مركبة متميزة للمتخيل و اللاوعي.

لوي بونويل
  و ثمة عنصران يعززان هذا التصور، أولهما أن المتفرج السينمائي يوجد في موقع له خصوصيته المتميزة، في طريق وسط بين الوعي و اللاوعي. إنه يوجد في نوع من الهلوسة اليقظة المتولدة عن شروط التمثل الفيلمي ذاتها: الظلمة، الشعاع الضوئي، الموسيقى... أما العنصر الثاني فيتمثل في قدرة الفيلم على اقتحام مجاهيل اللاوعي لما يتمتع به من قدرة على تطليق المنطق العقلاني. يقول الشاعر و السينمائي جان كوكتو: " إذا حكيت أن رجلا دخل مرآة سيكون رد الفعل على ذلك هو الاستهزاء، و لكن إذا بينت ذلك (على الشاشة)، عندها لا أحد سيهز كتفيه استهزاء".
-4-
   رفض كثير من المهتمين هذه العلاقة بين السوريالية و السينما. يرفض المخرج الفرنسي روني كلير (1898- 1981) مثلا الاعتقاد بأن السينما هي أفضل أداة للتعبير السوريالي، ذلك أن للسينما تقنياتها و قواعدها الخاصة التي تحول دون تدفق العالم المنفجر للاوعي بشكل شديد النقاوة و الصفاء. و هذا الاعتراض استمر طويلا.. عشرون سنة بعد روني كلير سجل الكاتب و الفيلسوف مارك سوريانو أن الكلمتين "سينما" و "سوريالية" هما كلمتان متناقضتان. للكاميرا قوانينها، و حتى الصور التي تبدو أكثر جنونا هي بحاجة لأن تكون موصولة عن طريق التماثل و الإيقاع".
   و لكن هذه الاعتراضات يمكن الرد عليها بأن كل كتابة عن الحلم لا تتحقق فورا و إنما هي تأتي بعد مرور وقت معين. إن كل صياغة لعوالم الحلم و اللاوعي لا بد أن تكون خيانة. و ربما يكون هذا هو السبب الذي دفع بمؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد إلى رفض التعامل مع السينما كرد فعل على الدعوات التي وجهت له لأجل ذلك من جهات عدة، كما بينا ذلك في الفصل الخاص بفرويد و السينما من هذا الكتاب.

- 5-
   إن العلاقة بين الفيلم و الحلم هي في الواقع علاقة ملتبسة. هكذا، بينما دعا باحثون و سينمائيون إلى ضرورة محاكاة الفيلم للحلم، فإن فكرة سينما متصورة كحلم، ليست مع ذلك سوى مرحلة في الطريق إلى سينما سوريالية بحق. لكن هذه الفكرة بدت مع الأيام فكرة بالية، باعتبارها استسهالا سعى السورياليون إلى تجاوزه. و يعتبر موقف الشاعر أنطونان أرطو هو الموقف الأكثر دلالة بهذا الصدد. ذلك أن أرطو، بعد الحماس الشديد الذي أبداه إزاء قدرة السينما على التعبير عن الحلم، عاد ليسجل بصدد سيناريو الفيلم الذي كتبه بعنوان "الصدفة و القس" و أخرجته جيريمن دولاك (1928) ما يلي: " إن هذا السيناريو ليس إعادة إنتاج لحلم، و لا ينبغي اعتباره كذلك. إنني لا أسعى إلى تبرير لا تجانس الفيلم عبر الهروب السهل نحو الأحلام".
  و إذن فقد تم طرح الحلم جانبا، لكن نحو أي فضاء؟ و ماذا يريد الفيلم السوريالي أن يكون؟ " لا شيء آخر، عندئذ، غير أداة لاستكشاف الحياة العميقة للوعي، للهواجس و الاستيهامات خلال بروزها التلقائي و اللاعقلاني". تكفي لأجل ذلك قراءة التحديدات المتعددة التي قدمها أنطونان أرطو حول سيناريو الفيلم المشار إليه. يقول: " إن هذا السيناريو يبحث عن الحقيقة المعتمة للروح، إنه لا يروي حكاية، إنه يسعى إلى البحث في الولادة المحتجة و في تشردات العاطفة و الفكر، عن الأسباب العميقة، عن الميولات الإيجابية و المقنعة لأفعالنا المدعاة أفعالا واضحة. إنه يسعى إلى ترميم الاشتغال الخالص للفكر".

                     عن كتاب "السورياليون و السينما" – ألان و فوديت فيرمان 
                                        – سيجيرس – باريس 1976
                                       
                                    نورالدين بوخصيبي
                                  صفحتي على الفيسبوك  

                        تابعنا على صفحة جاك لاكان على الفيسبوك        


السوريالية..السينما و اللاوعي Reviewed by Nouredine Boukhsibi on يونيو 08, 2017 Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.