التكرار من فرويد إلى لاكان " قَدَرُ الذات و سبيلُ الرغبة" (*)
الكاتبة: إيفلين أورتادو
ترجمة:
نورالدين بوخصيبي
يعتبر التكرار من
المفاهيم الأساسية في القسم الأخير من مؤلفات فرويد. ابتداء من نصه "ما وراء
مبدأ اللذة (1)" سينجم عن مفهوم التكرار مفهوم آخر هو نزوة الموت. يجعل لاكان
من مفهوم التكرار أحد المفاهيم الأربعة الأساسية للتحليل النفسي، إلى جانب
اللاوعي، و التحويل و النزوة. بأي معنى إذن يرتبط التكرار ارتباطا وثيقا مع تلك المفاهيم؟
نستطيع القول إن التكرار هو، في نفس الآن، نقطة تعثر اللاوعي و أساس التحويل transfert ، أو هو كذلك بالذات مصدر النزوة.
سيغموند فرويد |
شرع فرويد في بلورة مفهوم التكرار سنة 1914 في
مقالته بعنوان "التذكر، التكرار، عمل الاستيعاب"(2). اكتشف أن ما لا
نستطيع تذكره، تستعيده الذات بشكل مغاير: بواسطة التكرار، بواسطة ما يتكرر في حياة
الذات و بالرغم عنها. هكذا تتضح بشكل أفضل بعض التصرفات الفاشلة (في حالات عصاب
الفشل) أو بعض السيناريوهات التكرارية، التي توجد الذات أحيانا في قبضتها، مع
إحساسها بأنها لعبة يحكمها قدر شاذ. درس فرويد هذه السيرورة بصفة خاصة في الأعصبة
الهجاسية، التي سمحت له بأن يعتبر أن الفشل يمثل، في الغالب، بالنسبة للذات، وظيفة
"الثمن الذي علينا أن نؤديه"، أو وظيفة ضريبة يفرضها شعور خفي
بالذنب.
كانت أطروحة فرويد تتمثل، حتى سنة 1920، في أن
الظواهر اللاواعية، مثل الأحلام، و الهفوات، و الأعراض، تخضع لمبدأ ملازم للذات،
هو البحث عن الإشباع، عن اللذة. يسعى الإنسان إلى استعادة آثار مفقودة، آثار لشيء
سبق الإحساس به، سبق الشعور به في الماضي، آثار تذكرية. هكذا يصف فرويد الحلم بأنه
تحقيق لرغبة. لكنه، في نفس الوقت الذي يتحدث فيه عن تجربة الإشباع، فهو يصف محنة
المعاناة. في نصه بعنوان "مدخل إلى سيكولوجيا علمية(3)" ضمن كتابه
"ولادة التحليل النفسي"، يتحدث فرويد عن دفاع أولي للذات قصد الإحاطة
بعودة المكبوت.
لكن فرويد سيجد
نفسه مدفوعا إلى إعادة النظر في نظريته، و هو يدرس الأحلام الصدمية [الناتجة عن
صدمات] التي يعرضها مرضاه، في حالات العصابات الصدمية و عصابات الحرب. العودة
اللامنقطعة لصور و مشاهد الصدمة التي عاشتها الذات، إلحاح بعض الكوابيس، أو أيضا "الغرابة
المحيرة" (Unheimliche)
لوضعيات تتكرر في الحياة اليومية، كل ذلك قاده
إلى التساؤل أو إلى إعادة النظر في مفهوم مبدأ اللذة، عبر إدراج مفهوم نزوة الموت.
عندها تحدث فرويد عن صراع نفسي بين نزوات الحياة و نزوات الموت، و استنتج من ذلك
أن ما يعتبر معاناة و كدرا بالنسبة للذات الواعية قد يندرج ضمن نظام اللذة بالنسبة
للاوعي. هذه الأكدار التي يتحدث عنها سوف تنجم عن دفاع الذات.
"ما وراء مبدأ اللذة" |
فيما يخص أحلام
التحويل التي كان ينتجها مرضاه خلال التحليل، حيث يستعيدون ذكرى الصدمات النفسية
التي عاشوها خلال طفولتهم، استخلص فرويد أن هذه الأحلام تخضع لا إلى رغبة، و إنما
بالأحرى إلى ما أطلق عليه الاضطرار للتكرار compulsion de
répétition.
فحتى تترك الصدمة الذات في أمان، تلح على أن تُخْتَزَلَ، أن تعبر عن نفسها رمزيا.
و عودتها اللامنقطعة على شكل صور، أو أحلام أو فعلنات mises en acte ، لن تكون إلا محاولة من
الذات للتحكم فيها من خلال إدماجها داخل التنظيم الرمزي.
سوف تكون وظيفة
التكرار إذن هي الحد من الصدمة. غير أن هذه الوظيفة تكون في غالب الوقت غير مجدية.
لا يتأتى للتكرار الاضطلاع بهذه المهمة. ينبغي إعادة توجيهه بلا انقطاع، ينبغي
إعادته بلا انقطاع. إنه يكتسي خاصية نزوع أوتوماتي. سيقول فرويد إن أوتوماتية
التكرار تفرض نفسها على مبدأ اللذة و مبدأ الواقع. هكذا سيقر بأن هذا الاضطرار
للتكرار هو ظاهرة أولية عند الكائن المتكلم، و هو مرتبط بالصدمة الأصلية، صدمة
الولادة، الملازمة لفعل الحياة ذاته. هذه "الضرورة النزوية" للعودة إلى
نقطة الأصل، إلى الحالة اللاحية، سيطلق عليها فرويد تعبير "نزوة الموت":
هدفها هو استعادة حالة سابقة.
مفهوم
التكرارعند جاك لاكان:
يستعيد لاكان
مفهوم النزوع الأوتوماتيكي للتكرار في مؤلفه "كتابات" سنة 1966. و يمكن
التمييز بين ثلاث مراحل في بناء مفهوم التكرار عند لاكان:
جاك لاكان |
المرحلة الأولى:
اللحظة الأولى
هي مرحلة حلقة (سيمينير) "الرسالة المسروقة" التي ألقاها لاكان خلال
سنتي 1954 و 1955، و التي سيستعيدها في مؤلفه "كتابات" سنة 1966. خلال
هذه الفترة، ليس النزوع الأوتوماتي للتكرار غير نتيجة لقانون الدال الخاص
بالسلسلة المنتظمة للغة، الذي يحدد الذات على هذا المنوال. و هو في ذلك يتميز عن
فرويد الذي يتجه نحو البحث عن أثر للمتعة.
يكتب لاكان: " [...] النزوع الأوتوماتي للتكرار يجد مبدأه فيما أطلقنا
عليه إلحاح السلسلة الدالة" (4)
و لكي يدعم أطروحته، يأخذ لاكان كنموذج قصة إدغار
ألان بو "الرسالة المسروقة"، محاولا أن يبرهن على سلطات الرسالة،
سلطات الدال. و هو يقيم تمييزا بين الفعل الذي يتكرر في النزوع الأوتوماتي للتكرار
و عودة الشيء نفسه، مثل الدورات الطبيعية لليل و النهار، و دورات الفصول، التي لا
ينبغي أن تحسب من منظوره على التكرار.
في قصة إدغار
ألان بو يتكرر الحدث على المستوى البينذاتي. تخفي شخصيتا الوزير و
دوبان على التوالي الرسالة المشبوهة التي وضعتها الملكة داخل صالونها الخاص، عبر
تعويضها برسالة مزيفة.
إدغار ألان بو |
يؤكد لاكان على
الكيفية التي تعضد بها الذوات بعضها البعض عند تنقلها، خلال التكرار البينذاتي.
يتحدد تنقلها كما يقول بالمكان الذي يحتله الدال الخالص الذي هو الرسالة
المسروقة وسط الثلاثي، و هو ما يشكل نزوعا أوتوماتيا للتكرار. يحدد تنقل الدال
أفعال الذوات. إن ما يتكرر هنا هو سياسة النعامة، حيث يعتقد كل واحد أن الآخر لا
يرى الرسالة المسروقة. الحكمة من وراء هذه الحكاية أن الإنسان مهما بلغ في الخداع،
فهو ينتهي بأن يجد نفسه مخدوعا.
سعى لاكان إلى
البرهنة، من خلال هذه القصة، على أنه منذ اللحظة التي تمسك خلالها شخصية من الشخصيات
بالرسالة، فإنها تفقد سلطتها و تتعرض لمسخ. ذلك ما يحدث للوزير، صاحب المزاج
الشديد الفحولة، الذي يجد نفسه، بعد حصوله على الرسالة بين يديه، في وضعية أنثوية.
و هو يشرع في التشبه بالملكة، في الانتظار، في المكوث جامدا أمام الملك. إنه مفعول
الرسالة على الذات، كما يقول لاكان.
هكذا نلاحظ جيدا
كيف أن التكرار عند لاكان في هذه المرحلة من إعداده، لا يحضر إلا لأن الذات تتشكل
بواسطة اللغة، و تتحدد بواسطة الرمزي. إذا كانت الدوال تعود بلا انقطاع،
فذلك لأنها خاضعة لبنية اللغة، على اعتبار أن الدال يحيل إلى دال آخر داخل سلسلة.
إن اللغة توجد سلفا سابقة على الذات.
أما فيما يخص
كل ما ينتمي إلى نظام النزوي، و فيما يخص كل ما هو من قبيل النزوي، فإن لاكان
سيربطه بالخيالي، المرتبط بدوره ارتباطا وثيقا بالسلسلة الدالة.
المرحلة الثانية:
تقع اللحظة
الهامة الثانية في بناء مفهوم التكرار عند جاك لاكان، سنة 1964، عندما كان يحرر
حلقته بعنوان " المفاهيم الأربعة الأساسية للتحليل النفسي". حاول لاكان
أن يقدم مفهوما جديدا للتكرار، مختلفا عن ذلك الذي قدمه في حلقته عن "الرسالة
المسروقة" التي حدد فيها التكرار، كما سبق أن رأينا، في علاقته بإلحاح السلسلة الدالة التي تخضع
لها كل ذات متكلمة.
المفاهيم الأربعة للتحليل النفسي |
يؤكد لاكان على
مسألة أن التكرار ليس لا بعودة العلامات، و لا بالقوالب الجاهزة للسلوك. و بالفعل،
نحن لا نعيد أبدا فعل نفس الشيء. هناك في كل مرة شيء جديد ما. هكذا سيميز لاكان
بين وجهين للتكرار، عبر استعادة المقارنة التي يقيمها أرسطو بين tuché و automatun. سوف يكون "الأوتوماتون"
هو إلحاح العلامات، مبدأ السلسلة الدالة، أما "التوشي" فهو اللقاء، هو
ما يقع دون موعد محدد، كما تقول ذلك الكاتبة و المحللة النفسية كوليت صولير في
درسها عن التكرار. إنه ما تعذر تجنبه، و ما يستحيل على الذات ترميزه، و هو ما
سيطلق عليه لاكان تسمية الواقعي. إنه اللقاء بشيء ما غير متوقع، شيء لم
تسبق برمجته. إنه واقعي الصدمة.
هذا التصور
يلتقي مع تصور اللاوعي الفرويدي بوصفه ظاهرة، تمظهرا لعثرة، لإفلات للكلام
و الفعل، مثلما هو الشأن بالنسبة للفلتة و الهفوة، أو أيضا بوصفه تمظهرا لرغبة،
تمكن فرويد من قراءتها بدقة كبيرة في كتابه "تأويل الأحلام".
يقدم لاكان مع
ذلك تعديلا لهذا اللاوعي الفرويدي، من خلال تأكيده على مفهوم اللااستمرارية، أي
تأكيده على لاوعي ما إن يتم إدراكه حتى يعود أدراجه. و هو يربط مبدأ اللااستمرارية
الزمنية هذا بمبدأ خَفَقان (انفتاح/انغلاق) يحيل إلى النزوة. هذا اللاوعي ينبغي
البحث عنه ليس في جانب المعنى، مثلما حاول فرويد القيام بذلك بأي ثمن، و لكن
بالأحرى في جانب فُغُور (أو انفتاح). لاوعي ينبغي القبض عليه في جانب شُقَّ، في
جانب "خفقان الشُّقِّ(5)".
هكذا يتم ربط
التكرار لا باللاوعي كمعرفة، و إنما باللاوعي كذات، في علاقته بالواقعي.
التكرار كما يعبر لاكان عن ذلك، يكشف العلاقة بين الفكر و الواقعي. إنه
لا يعطي معنى للذات، لكنه بالأحرى "يعيد شَقَّ" الذات، من حيث هي
مُمَثَّلَة من قِبَل الدال.
سيستعيد لاكان تلك اللعبة الشهيرة، لعبة البَكَرَة،
التي سبق أن أثارها فرويد، لكي يميط اللثام عما يحدث عند الطفل، بشأن حضور الأم و
غيابها. إن لعبة الطفل هذه لا تختزل إلى مجرد محاولة الطفل القيام بمقاومة مفعول
غياب الأم. إنها جواب الذات على ما جاء غياب الأم ليخلفه كَفُغُور، كـانشطار
spaltung
عند الطفل، بسبب وضعيته ككائن متكلم. هذه البكرة ليست هي الأم و قد تم اختزالها
إلى خَيْط؛ إنها، يقول لاكان "شيء صغير من الذات، ينفصل عنها مع بقائه منها،
موصولا بها".
و في مداخلته بمؤتمر روما يصرح لاكان
قائلا: " إن ما يتكرر و لا يكف عن التكرار، هو هذا الواقعي الذي يعود دائما
إلى نفس المكان، و الذي يعيق خطاب التوازن الداخلي الذي لا نستطيع بلوغه بواسطة
التمثل" ("الثالثة La troisiéme ").
بعد السيمينيرالحادي
عشر، يتابع لاكان بناء نسقه، حيث سيركز أكثر فأكثر على الصلة بين المعرفة
اللاواعية و جسد الذات، و هو ما سيقوده إلى إدراج مفهوم آخر هو مفهوم "المتعة".
المرحلة
الثالثة:
في مرحلة ثالثة
إذن، و بشكل أدق في كتابه "الوجه الخلفي للتحليل النفسي"، سنة 1970،
يتحدث لاكان عن ذلك بشكل صريح. بالنسبة
له، يتلازم التكرار مع المتعة. يستند لاكان
إلى اكتشاف فرويد، سنة 1920، كي يقول إن ما يتكرر يرتبط بالنزوة، بإلحاح نزوة
الموت التي، بما لها من طابع واقعي، تفلت من التمثل، من الرمزي، و تغدو مصدرا
للمتعة." إن ما يجعل التكرار ضروريا، هو [...ما] يسجل داخل جدلية للمتعة، [و
ما ] يمضي، على وجه الدقة، ضد الحياة.
[...] ليس التكرار هو فقط وظيفة الدورات التي تشملها الحياة، دورات الحاجة و
الإشباع، و إنما هو وظيفة شيء آخر، وظيفة دورة تحمل اختفاء هذه الحياة بما هي
كذلك، و التي هي العودة إلى وضعية اللاحياة.
[...] يكفي الانطلاق من مبدأ اللذة، الذي لا يكون شيئا آخر غير مبدأ الدرجة
الأدنى من التوتر، مبدأ التوتر الأدنى الذي ينبغي الحفاظ عليه لتستمر الحياة. يدل ذلك
على أن المتعة تكتسح مبدأ اللذة، في ذاته، و أن ما يصر عليه هذا المبدأ لهو الحد
فيما يخص المتعة". (6)
الوجه الخلفي للتحليل النفسي |
هكذا إذن سيدرج لاكان مفهوم السمة الواحدة في
العلاقة بالمتعة، داخل التكرار. السمة الواحدة عند لاكان هي العصا، عنصر الكتابة،
سمة الدال "بما هو يؤبد اقتحاما للمتعة (7)". كان فرويد قبل لاكان قد
تحدث مسبقا عن السمة الواحدة بما هي سمة لتماهي الذات.
سيذهب لاكان
أبعد من ذلك، عبر التأكيد على أن التماهي مع السمة الواحدة يتم دائما بوساطة الآخر
الكبير grand Autre
. إنه يقتطع دائما
من الآخر Autre لأنه يحيل دائما إما إلى طلب الآخر
الكبير أو إلى رغبته. هذا الآخر الكبير هو آخر اللغة، لكنه أيضا الأم التي تدرج
الطفل داخل اللغة. يقول لاكان إن " هيمنة المرأة بوصفها أما [...] هو ما يؤسس
خضوع الإنسان الصغير(8)". و هو يستعمل التعبير التالي: " المرأة تعطي
للمتعة الجرأة على قناع التكرار" (9). ينجم عن ذلك بالنسبة للطفل، الذي يتعلم
أن يتكلم و يسأل، أن يمر عبر التنكر، الذي يستلزمه ما يسميه لاكان بالتواطؤ
الاجتماعي. و بالتالي التخلي عن "المتعة المغلقة مع الأم (10)"، أي عن الاستمتاع
بالأم بوصفها موضوعا، و عن تشكيل وحدة معها.
هذه الوظيفة
التماهوية للسمة الواحدة، يطورها فرويد في نصه "السيكولوجيا الجمعية و تحليل
الأنا"، في الفصل الذي يتحدث فيه عن التماهيات الثلاث و الذي يذكر فيه مثال دورا،
التي تتماهى مع أبيها عن طريق السعال. يتعلق الأمر هنا بالصنف الثاني من التماهي
الذي يسند تشكيل العَرَض symptôme. يتعلق الأمر بالسعال، فيما يخص حالة دورا. إنها
تتماهى مع سمة واحدة unaire مقتطعة من الآخر الكبير
الذي هو الأب، مأخوذا في رغبته كرجل ذي جنس محدد sexué، أو بشكل أكثر دقة على
مستوى متعته المفترضة من قبَل دورا.
السمة الواحدة unaire هي إذن سمة تماه تُمَثّل
الذات. إنها وَسْمُ الذات، أي ما به تتعرف الذات على نفسها. تسجيلها عرضي. إنها
تسجل بالفعل انطلاقا من لقاء، لقاء متعة مستشعرة في تاريخ الذات، لقاء يطبع
الذاكرة و يبصمها. " هذا الشيء المجهول، يقول لاكان، الذي يأتي ليضرب، ليدوي
بقوة، قد أحدث متعة، متعة ينبغي أن تتكرر
(11)
".
عندما يتحدث لاكان عن السمة الواحدة unaire بوصفها خزانا للمتعة، فهو
غالبا ما يستدعي الفيلسوف كييركغارد و نصه المكتوب سنة 1943 حول التكرار، و هو
النص الذي ترجم إلى اللغة الفرنسية بعنوان: "الاستعادة" و الذي طبع
تاريخ الفلسفة الوجودية. انطلاقا من مغامرة عاشها كييركغارد عندما كان يبلغ من
العمر عشرين سنة مع فتاة كانت تصغره بعشر سنوات، أسس الفيلسوف أخلاقية للتكرار. فبعد
وقت قصير من لقاء هذه الفتاة، قطع الصلة معها من غير سبب واضح، مع استمراره في
الكتابة بأنها الحبيبة المُطْلَقَة، و
بأنه لا يكف عن حبها و التألم من أجلها. فضل كييركغارد البقاء عند ذكرى اللقاء،
عند سحر اللقاء. و بقاؤه معلقا عند هذه الذكرى، يمثل بالنسبة له تأكيدا للكائن في
تفرده، إعلاء للكائن الذي ينفصل بهذا الشكل عن الأحداث التافهة في الحياة، التي تميل
إلى تشتيته. هكذا يموقع كييركغارد التكرار، في نسقه، لا كاختزال، و إنما كتحقيق
للحرية. يكتب: " التكرار زوجة محبوبة، لا يصيبنا السأم أو الضجر منها أبدا".
الفيلسوف كييركغارد |
غير أن التكرار،
كما يقول لاكان، ليس هو تكرار السمة الواحدة فقط. إذا كان مؤسسا على عودة للمتعة،
فلأنه يوجد، في حدث التكرار ذاته، شيء ما مفقود. فلأن هناك بالفعل فقدانا لمتعة سبق
الشعور بها، نعمد إلى التكرار، قصد محاولة استعادة شيء من هذه المتعة المفقودة إلى
الأبد. يستعمل لاكان مصطلح entropie (من المصطلح اليوناني « entropia » "عودة") قصد الإحاطة بهذا البعد الخاص
بالفقدان. " [...] ففي محل هذا الفقدان، نلاحظ بروز وظيفة الموضوع المفقود،
وظيفة ما أُطلِقُ عليه الـ a (12) [...] داخل هذا الضياع، تكتسي المتعة وجودا،
تتعين (13)". هكذا نفهم بشكل جيد
مصطلح فائض المتعة الذي سيستعمله، بمعنى استعادة متعة مفقودة.
تعطينا المحللة النفسية كوليت صولير، في
درسها عن التكرار، الاشتقاق اللغوي لفعل « répéter ». يُشتَق الفعل repetere من كلمة petere التي تدل في اللغة
اللاتينية على السعي إلى بلوغ الشيء. Re-petere السعي إلى بلوغ الشيء مرة أخرى. يتعلق الأمر إذن بالسعي
إلى أخذ شيء ما من السمة، لكن الأمر يختلف في كل مرة، لأننا لا نستطيع العثور من
جديد على ما كان، لذلك نكرر. " إن ما يقع، متكررا، يختلف، يغدو موضوعا لتكرار
القول". الموضوع "a" يشهد على استحالة كليانية المعرفة. إنه الحرف
الذي اختاره لاكان للدلالة على نهم التكرار.
المحللة النفسية كوليت صولير |
باختصار، إذا كان لاكان ينعت السمة الواحدة بوصفها
خزانا للمتعة، فذلك بمعنى مزدوج: هناك، من جانب، الحنين إلى الفقدان، فقدان متعة
لن تتم استعادتها، مرتبطة بالبنية؛ و هناك من الجانب الآخر، البحث عن استعادة هذا
الشيء المفقود إلى الأبد. لذلك يتحدث لاكان عن لقاء بين الحنين و البحث.
إذا كانت السمة الواحدة عارضة، فإن التكرار،
من جانبه، ضروري، حسب لاكان، من حيث هو يرتبط ببنية المعرفة اللاواعية، بمعنى وجود
شيء لا يكف عن الانكتاب، شيء مرتبط بهذه المعرفة. إن بنية الكلام ذاتها هي التي
تجعل الذات تجد نفسها مدفوعة إلى تكرار شيء ما من هذه المعرفة. ذلك ما نلاحظه بشكل
جيد في العدة التحليلنفسية، حيث التحويل و التكرار، اللذين قام فرويد، مع ذلك،
بالخلط بينهما، لا يوجدان إلا من أجل الإحاطة بالخاصية الملحة للاوعي. سيقول لاكان
إن العَرَضَ هو شيء ما لا ينفك عن الانكتاب داخل الواقعي.
ختاما، نستطيع
القول إن التكرار هو قدر الذات، قدر الكائن المتكلم parlêtre. يحل الوَسْمُ هنا كي
يحيط بهذا الفقدان الملازم لكل ذات، كما
أنه في الوقت نفسه مُكثِف للمتعة. إنه، عند لاكان، ليس شيئا آخر غير ذات تتماهى بوصفها موضوعا للمتعة (تحديدا في حالة المازوشية
أو في حالة "طفل يُضْرَبُ"). إنه أحد مسالك دخول الآخر الكبير
عالَمَ الذات (الوجه الخلفي للتحليل النفسي). و هو ما نتبينه جيدا، في الوقت
الحاضر، في حالات الوشم و شَرْطِ الجِلْد. سوف يُسجَّل التكرار بالتالي بين هاتين
الحركتين، بين الفقدان و المتعة.
دورا |
و إذا لم تكن
هناك، كما يزعم لاكان، أية ذات قادرة على الإفلات من التكرار، فإننا نستطيع مع ذلك
إضافة الملاحظة التالية، و هي أننا لا نكرر بنفس الطريقة في بداية المعالجة كما في
نهايتها، على اعتبار أن الذات، مستسلمة لوضعيتها و لحقيقة أنه لا وجود لعلاقة
جنسية تُمَكِّنُ من صنع الواحد، تستطيع أخيرا أن تعترف بذاتها و تؤكد ذاتها في
تفردها. ذلك ما يشير إليه لاكان عندما يتكلم عن تماهي المرء مع عَرَضه الخاص في
نهاية المعالجة.
هكذا فإن
التكرار ليس هو فقط قدر الذات، إنه أيضا سبيل للنفاذ إلى رغبتها.
------------------------------------
هوامش:
* Inter-cartel
Aix-en-Provence, décembre 2008.
1-
Sigmund Freud, Essais de
psychanalyse, Paris, Payot, 1981.
2-
S.Freud, La technique
psychanalytique, Paris, PUF, 1953.
3-
S. Freud, La naissance de la
psychanalyse, Paris, PUF, 1956.
4-
J. Lacan, Ecrits, Paris,
Seuil, 1966, p.11.
5-
J. Lacan, Le séminaire, Livre
XI, Les quatre concepts fondamentaux de la psychanalyse, Paris, Seuil, 1973,
p.33.
6-
J. Lacan, Le séminaire, Livre
XVII, L’Envers de La psychanalyse, Paris, Seuil, 1991, p. 51
7- Ibid., p.89.
8- Ibid.
9- Ibid.
10- Ibid.
11- Ibid., p.56.
12- Ibid., p.54.
13- Ibid., p.56
المترجم و صاحب الموقع: نورالدين بوخصيبي
التكرار من فرويد إلى لاكان " قَدَرُ الذات و سبيلُ الرغبة" (*)
Reviewed by Nouredine Boukhsibi
on
مايو 16, 2017
Rating:
ليست هناك تعليقات: