Top Ad unit 728 × 90

مقالات

نقد سينمائي

"حب في الدار البيضاء" لعبد القادر لقطع أو الرغبة في مواجهة المواضعات الاجتماعية

  
كتبها: نورالدين بوخصيبي

"حب في الدار البيضاء" (1991) هو الشريط  المطول الأول للمخرج المشاغب عبد القادر لقطع. قبل ذلك كان هذا السينمائي الذي ولد بمدينة الدارالبيضاء سنة 1948، قد تلقى تكوينه السينمائي بـ "المدرسة العليا للسينما و المسرح و التلفزيون" ببولونيا، قد أخرج مجموعة من الأشرطة القصيرة، و شارك في إخراج فيلم جماعي يحمل عنوان "رماد الزريبة" سنة 1976. و سنة 1988 شارك لقطع في كتابة و إخراج شريط وثائقي مطول هو "المرأة القروية". 

تكمن أهمية  فيلم "حب في الدار البيضاء" في اقتحامه بشكل جريء لمكون أساسي من المسكوت عنه في ثقافتنا السائدة، متمثلا في المسألة الجنسية. يثير لقطع في فيلمه ظاهرة الغموض الاجتماعي إزاء عاطفة إنسانية حميمية  هي عاطفة الحب من خلال اقتحام البعد الجنسي فيها. لكن ما يثيره لقطع أساسا من جانب آخر هو العلاقة الأوديبية بوصفها علاقة صراع توجد في قلب العلاقة بالموضوع الجنسي.. قام لقطع بإخراج مواجهة تراجيدية بين الأب جليل (أحمد الناجي) و ابنه نجيب (محمد زهير).. صراع شرس للفوز بقلب الشابة سلوى (منى فتو) التي تتابع دراستها بإحدى الثانويات الشهيرة بالبيضاء.. تندلع المواجهة من داخل فضاء المحرم، لتنتهي أخيرا بانتحار نجيب مستسلما و منهزما أمام جبروت أبيه. أخرج لقطع بذكاء كبير هذه العلاقة الأوديبية الصراعية بين الأب و الابن، لكنه قام باستيعابها ضمن علاقات مرآوية متعددة يظهر فيها الحب بوصفه مخترقا للمواضعات الاجتماعية المهترئة و المتكلسة.

   الشريط من جانب آخر احتفاء جميل بالجسد..لأول مرة تقتحم الممثلة الصاعدة منى فتو عالم الشاشة الكبيرة، حيث تركز الكاميرا و تحتفي بجسدها الغض بشكل يحث على مساءلة أو على خلخلة كامل البنية الاجتماعية المشدودة إلى ثقافة تقليدية عقيمة. يتبعثر الجسد من خلال الصور الفوتوغرافية العديدة التي يلتقطها نجيب بِتَوَله آسر بجسد حبيبته سلوى.. صور تحول الجسد الطازج إلى مجموعة قطع يتم إضفاء تناسق عليها من خلال التوضيب على مستوى الصورة الثابتة. لا غرابة إذن أن تتمكن هذه الممثلة الجريئة "منى فتو"، و هي في بداية مشوارها الفني،  من الفوز بجائزة أحسن ممثلة عن دورها في هذا الفيلم خلال المهرجان السينمائي الوطني الثالث المقام بمدينة مكناس سنة 1991؛ فيما حصل عبد القادر لقطع على جائزة أحسن توضيب عن نفس الفيلم بنفس المهرجان.
  كانت هناك أعمال سينمائية سابقة قد احتفت بالجسد في السينما المغربية، أخص بالذكر منها فيلم "قفطان الحب" لمومن السميحي، لكن ما يحسب أساسا لـ"حب في الدار البيضاء" أنه جعل السينما الوطنية تتصالح مع جمهورها من خلال الزج بممثلة صاعدة كي تقول كلمتها مباشرة و بلا رتوش. و ضدا على اليقين الزائف الذي تروج له الثقافة السائدة، تصرح سلوى قائلة عن نفسها: "أنا نفسي لا أعرف نفسي".. و يقول جليل (أحمد الناجي) مخاطبا سلوى: "فالمجتمع ديالنا الحب ما بقاتش عندو قيمة.." "الراجل اللي تيحب مراتو و لا صاحبتو كيبان ليهم بحال يلا ما عندو شخصية !!". بذلك نكون إزاء خطاب صريح واضح للدفاع عن الحب بكل قوة على الشاشة السينمائية.. الرسالة واضحة تماما. علينا أن نغير جذريا منظورنا للحب..يتساءل الشاب العاشق "نجيب" خلال حديثه مع "سلوى" عن السبب الذي يجعل أبويه عاجزين عن التفاهم. و من أهم مواقع الخلل التي يضع الأصبع عليها عقم التعليم ببلادنا. "تعليمنا لا يمكن من التفتح و تطوير الإمكانيات الذاتية". بتعبير آخر الفيلم هو إدانة واضحة لمجتمع مضاد للحب. مضاد لكينونة الإنسان.

المخرج عبد القادر لقطع
  و فيما يحتفي لقطع بالجسد، يحتفي أيضا في فيلمه  بالصورة و السينما. يتآزر في فيلم لقطع حضور متكامل للصورة التشكيلية و الصورة الفوتوغرافية و السينمائية. إذا كان الفتى نجيب متولها بالصورة الفوتوغرافية، فلأنها وحدها القادرة على الإمساك بالجسد في طزاجته، و لكن أيضا في فتنته و رعونته. تفتت الصورة الفوتوعرافية الجسد إلى أجزاء متعددة.. متناثرة.. قبل أن تعيد صياغتها ضمن توليفات جديدة.. ذلك لا يخلو طبعا من فتيشية واضحة. الصورة تأتي لتحل محل الجسد. تأتي لتسد نقصا. لإخفاء الخصاء. و بما أن هذا النقص الذي تسعى إلى سده هو مكون أساسي من مكونات الكائن الإنساني، فهي لا تعمل إلا على الزج بهذا الأخير في براثن الموت بشكل مدمر. ينتحر الفتى نجيب لأن الصورة التي هو متوله بها هي جسره الضروري نحو هذه النهاية المأساوية.

  و تحضر السينما في الشريط أيضا من خلال حضور تحفة سينمائية عالمية ألا و هي  فيلم "كازابلانكا"(1942) للمخرج الأمريكي مايكل كورتيز، من بطولة النجمين العالميين همفري بوغارت و إنغريد بيرغمان. و كأن عبد القادر لقطع، من خلال تركيزه على ملصق الفيلم، و بعض لقطاته الحاضرة عبر صور فوتوغرافية، و أيضا من خلال مقاطع من الموسيقى الشهيرة للفيلم، إنما يسعى إلى التأكيد على أن فيلمه يندرج ضمن هذا المنحى السينمائي الإبداعي الراقي الذي تطرق إلى نفس التيمة، الصراع بين الرغبة و المواضعات الاجتماعية و الثقافية. بخصوص فيلم "كازابلانكا " يكفي أن نبين أنه حصل على جائزة أوسكار أحسن فيلم سنة 1944، و اعتبر سنة 2007 ثالث أحسن فيلم من إنتاج السينما الأمريكية.   
حظي فيلم "حب في الدارالبيضاء" بإقبال جماهيري واسع، و تمكن من انتزاع جائزة أحسن توضيب لعبدالقادر لقطع، و جائزة أحسن ممثلة (منى فتو) في المهرجان الوطني للسينما المغربية المنظم بمدينة مكناس سنة 1991.
"حب في الدار البيضاء" لعبد القادر لقطع أو الرغبة في مواجهة المواضعات الاجتماعية Reviewed by Nouredine Boukhsibi on أبريل 07, 2017 Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.