السينما و رهانات الحداثة - نورالدين بوخصيبي
يكاد يكون من نافلة القول التذكير بما لعبته و تلعبه السينما من دور بالغ الأهمية، إن لم نقل بالغ الخطورة، في التأطير و التكييف الجماعيين، و ذلك استنادا بالأساس إلى مكونيها الرئيسيين: التكنولوجيا، فالسينما كما يعرف الجميع فن تكنولوجي بامتياز؛ و الخيال ما دام كل فيلم، مهما بلغ في وثائقيته يظل - لضرورات مرتبطة بخصوصية الفن السينمائي - فيلما خياليا. (كل فيلم هو فيلم تخييل (.
انطلاقا من الوعي بقوة الحضور السينمائي ضمن النسيج الاجتماعي الشامل على المستوى العالمي، تنهض الدراسات السينمائية المرتكزة بصفة خاصة على مبادئ التحليل النفسي، أو تلك التي تتأسس أحيانا على أنقاض هذه المبادئ، لمقاربة السيرورة السينمائية المعقدة. في انتظار صدور دراسات مفصلة عن هذه الأعمال النظرية و النقدية، نكتفي هنا بالإشارة المقتضبة إلى بعض هذه المواقف (1):
- موقف جان لوي بودري:
الجهاز السينمائي عند جان لوي بودري هو جهاز إيديولوجي يصب في مجرى النزعة الإنسانية (أو الإنسانوية) مادامت الصورة الفيلمية، بكل صخبها و حركيتها، تعرض أمام المتفرج كما لو كان السيد المطلق. غير أنها في وجهها الآخر، السفلي، عبارة عن نزعة إنسانية نكوصية، فيما هي تعلي من شأن الوضع الخاص بالإنسان/ المتفرج، فهي تعيده إلى مرحلة سابقة من تطوره الطفلي هي المرحلة الفمية، مع إحلال المعطى العيني محل المعطى الفمي.
من "سر فيرونيكا فوس" لفاسبيندر |
- موقف كرستيان ميتز: يسجل المنظر السينمائي كرستيان ميتز من بين ما يسجله بخصوص الفرجة السينمائية، يسجل الطابع المرآوي للشاشة السينمائية (نسبة إلى "مرحلة المرآة" عند جاك لاكان). كما يسجل الوضع التلصصي للمتلقي السينمائي، و هو وضع يشتغل ضمن البنية الأوديبية. يحيلنا الوضع التلصصي للمتفرج السينمائي إلى مفهوم "المشهد البدائي"، الذي هو مشهد تلصص الطفل على الممارسة الجنسية التي يستشعرها كفعل عدواني موجه من طرف أحد الأبوين نحو الآخر، و هو المشهد الذي استثمره على سبيل التمثيل لا الحصر، المخرج الإيطالي بازوليني بذكاء في شريطه الشهير "أوديب ملكا" (1967 ).
من شريط "أوديب ملكا" لبيير باولو بازوليني |
- موقف فليكس غواتاري: من منطلق مغاير رافض للأوديب و للتحليل النفسي بشقيه الأورثودوكسي و البينوي اللاكاني، يعتبر غواتاري أن المؤسسة السينمائية عبارة عن آلة قمعية لا يمكن استيعاب ميكانيزماتها إلا في ارتباطها بكامل الجسد الرأسمالي. في دراسة جميلة له بعنوان "أريكة الفقير" يقول غواتاري: "إن سوفوكل لم يعد له من مكان هنا"، مما يعني أن "البديهيات" الأسروية للتحليل النفسي عاجزة عن استيعاب هذا الاستثمار الجماعي الذي تقوم به الآلة السينمائية التي لا تنفصل لديه عن مجموع الآلات الكبرى للضبط الاجتماعي.
هذه المواقف النابعة من دراسات ميدانية تطبيقية حول الفن السابع، و التي تستلهم مجموعة من مكتسبات العلوم الإنسانية، تدفعنا مباشرة إلى طرح السؤال التالي:
هل هناك من إمكانيات لدى سينما الحداثة لانتشال المتلقي من هذه الوضعية المعقدة التي تفرضها طبيعة المؤسسة السينمائية ذاتها؟
نشير أولا إلى أن الحديث عن مؤسسة سينمائية يعني أن الجسد الرأسمالي يجيش عددا هائلا من الوسائل و الأدوات لخدمة سينما بعينها هي السينما السائدة (إنتاج، توزيع، تنظير، نقد، إشهار، نظام النجوم، مهرجانات، تسويق تلفزيوني...)، و إقصاء ما عرف في تاريخ السينما باسم السينمات الطليعية أو التجريبية... هكذا في سنة 1967 عندما كان ناقدان سينمائيان بصدد إنجاز دراسة حول "السينما الأمريكية الشابة" تلقيا نظير الجواب التالي:
"هذه الأفلام لا مستقبل لها لأنها لن تكون أبدا موزعة. كل التجارب من هذا القبيل هي تجارب تافهة و غير مجدية". مثلما تلقيا النعوت التالية: إنها سينما التمرد الثقافي لا الاجتماعي. طريقة في التعبير متوحشة، ساذجة، بورنوغرافية، حاقدة، صورة مشوشة، صوت رديء، سيناريو مفكك، إلخ. (2)
غير أن السينما الحداثية ظلت مصرة على مواصلة الطريق الصعب. و الطبيب النفسي فليكس غواتاري نفسه رغم نظرته المأساوية ظل يعلق الأمل على ما يسميه "سينما مكافحة"، سينما بهاجس البحث عن إمكانيات ما للإفلات من الأنماط المبتذلة للسينما السائدة، كما عبرت عن ذلك العديد من التجارب العالمية، نذكر من بينها تجارب أنطونيوني، و بازوليني، و برغمان، و جان لوك غودار و غيرهم.
إنغمار برغمان |
في هذا الإطار يذهب السينمائي ألان روب غريي بعيدا بمعنى ما عندما يطالب بضرورة تخليص الفيلم من المعنى، تخليصه من إيديولوجيا المعنى المكرور و المستهلك. مهمة ضرورية جدا بالنسبة له حاول بلورتها في أشرطته التي نخص بالذكر منها هنا شريطه المشترك مع ديميتري دوكليرك « Un bruit qui rend fou » (1995)، مع أنها كثيرا ما تبدو مهمة شبه مستحيلة.
تتمثل إحدى الخاصيات الأساسية للحداثة السينمائية من منظور ألان روب غريي في تقديم محكي سينمائي يعمل في الوقت ذاته على مساءلة المحكي ذاته، مع خلخلته و إجراء تصدعات بداخله. ذلك ما نلاحظه في الأفلام الأخيرة لفليني نخص بالذكر منها بالأساس فيلمه "تبحر السفينة" (1983) حيث يعمد فليني إلى الجمع ما بين ما هو خارج فيلمي و ما يرويه الفيلم من أحداث متخيلة، و أيضا من خلال عملية تقعير فيلمي تجعله يقتحم كونه السينمائي من داخل السيرورة السينمائية ذاتها ليكشف عن عالم مصطنع زائف آيل إلى الاندحار.
في نفس الأفق يندرج مسعى السينمائي مارسيل حنون إذ يقول إن "الحداثة السينمائية لا تكمن في طريقة الحكي، أو في تدمير حكاية ما، في هدمها أو تشويهها، كما لا تتمظهر من خلال طريقة توظيف الأدوات السينمائية. على العكس إن هذه الحداثة إنما تكمن في الفعل بالذات، في الاكتشاف الدائم و الملح للفعل السينمائي في تجدده". و كأني به يقول إن الهاجس الرئيسي لسينمات الحداثة هو ضرورة الإفلات من الأشكال المكرورة و الجاهزة للفعل السينمائي، مهما تكن طبيعتها..
إن الفعل السينمائي المتجدد هو رفض للجاهز، و انزياح عن المألوف و المبتذل. إن ما على الفعل السينمائي أن يكشف عنه في رأي السينمائي مارسيل حنون لهو الفراغ بالذات ضدا على الامتلاء الزائف للسينما السائدة، كما هو واضح في أفلامه التي نخص بالذكر منها فيلم "الليلة المضيئة" (1980).
"الليلة المضيئة" مارسيل حنون |
هذا الحرص على الاختلاف هو بالذات ما يرمي إليه المنظر السينمائي الحداثي أندري غاردي (الذي خصص كتابا لفيلم ألان روب غريي "الرجل الذي يكذب" 1968)، حيث يرى أن الحداثة الحقيقية تكمن أساسا في تغيير العلاقة مع المتلقي. لا وجود و لا معنى لحداثة سينمائية حقيقية إذا هي لم تؤد إلى مساءلة علاقة المتلقي السينمائي بموضوعه، و إذا هي لم تحقق "طفرة حقيقية في فعل الاستهلاك". إذا هي لم تحقق ذلك فهي مهددة بالسقوط في أحضان ما جاءت لتحاربه. و هو الأمر الذي يتطلب إجراء "استراتيجية دقيقة" لمجابهة "كليانية المعنى المألوف لدى المتلقي". أليس ذلك بالضبط ما يقصده روب غريي من خلال دعوته إلى تخليص الفيلم من المعنى؟
غير أن المشكل الذي ظلت تعاني منه هذه السينمات أنها فيما تحقق للسينمائي جانبا من متعة ما، فهي على العموم لاتحقق نظير هذه المتعة لدى الجمهور العريض، و ذلك بحكم انحصار الذوق الجماهيري ضمن أسنن تأويلية و فرجوية خاصة لا تزيدها البنيات الفرجوية الراهنة إلا ترسخا، مما يجعل المهمات الملقاة اليوم على هذه التجارب مهمات أكثر جسامة قياسا إلى ما كان عليه الأمر في عقود سابقة..
وداعا أيتها اللغة ..جان لوك غودار |
هوامش:
نشرت هذه المقالة بجريدة "أنوال" بتاريخ 13/11/1992 و قد أجرينا عليها بعض التعديلات...
1- أ مجلة « Communications » عدد 23 – 1975 عدد خاص بالسينما و التحليل النفسي.
2- ورد ضمن مقالة دومينيك نوغيز " نظرية أم نظريات السينما؟" ضمن ندوة "سينمات الحداثة" منشورات كلينسييك 1981 (بالفرنسية)
3- الآراء حول الحداثة وردت ضمن المرجع السابق.
نورالدين بوخصيبي
ناقد سينمائي من المغرب
نورالدين بوخصيبي
ناقد سينمائي من المغرب
السينما و رهانات الحداثة - نورالدين بوخصيبي
Reviewed by Nouredine Boukhsibi
on
يونيو 16, 2017
Rating:
ليست هناك تعليقات: