Top Ad unit 728 × 90

مقالات

نقد سينمائي

باي باي سويرتي لداوود اولاد السيد أو مسافات اللعب و الوهم - نورالدين بوخصيبي



    من الصعب جدا مجاراة المخرج المغربي المتميز داوود اولاد السيد فيما ذهب إليه أكثر من مرة متحدثا عن حكاية شريطه "باي باي سويرتي"  (1998)  بوصفها حكاية في منتهى البساطة. هذه البساطة- إن هي توفرت فعلا- هي مجرد بساطة خادعة، مثلما هو كل شيء خادع في هذا الفيلم البالغ القسوة. لنقل إن جمالية الفيلم هي جمالية نابعة من لعبة التباسات متعددة، داخلها تتنامى كل مكونات و عناصر المحكي، و عبرها يكاد يستحيل كل شيء إلى ما ليس هو، مما يستحث المشاهد على إعادة النظر ليس فقط فيما يؤثث الفضاءات المحيطة به، بل، و هذا هو الأساس، في أدوات رؤيتنا و تفكيرنا في ذواتنا و في الأشياء من حولنا. (1)

    بفظاظة قاسية، و عبر لعبة الالتباس هذه، يجد المشاهد نفسه في مواجهة ما يمكن أن نطلق عليه "سراب المعنى" إذا جاز التعبير. فالأبوة التي ألفناها علاقة مقدسة، حميمية و دافئة، تتقدم في "باي باي سويرتي" بوصفها علاقة صراع شرس بين الأب "قاسم" العليل و ابنه "العربي" الذي لا يجد أدنى حرج في الإفصاح، غير ما مرة، عن رغبته في موت أبيه. و "السويرتي"، هذا الفضاء الموشوم في الذاكرة كطقس احتفالي، كلحظة للعب طفلي ساحر، كفسحة للأمل، كلعب بريء و ماكر، يستحيل في الفيلم إلى فضاء قاتل، يأكل أبناءه بشراهة بعد أن يزج بهم داخل أسوار قاتلة من العزلة المزمنة تبدو كل أشكال التواصل الإنساني داخلها مستحيلة. ذلك أن المشكلة، في الصورة المألوفة لنا عن هذه الظاهرة، لا تكمن في المآل الصعب الذي انتهت إليه فحسب، و لا هي تكمن في عجز محترفيها عن الصمود في وجه الرياح المهددة بانقراضها، بل هي تكمن، أكثر من ذلك، في عجزنا نحن عن رؤية الوجه الآخر، الخفي، لهذه اللعبة الهاربة. و لذلك تصوب الكاميرا لتلتقط بعنف وضعيات صعبة لأجساد مشروخة، غارقة في صمتها المزمن - قاسم ـ  أو غارقة بالمقابل في لجة كلام عابر به تدغدغ أحلاما وردية ترى فيها مبرر بقائها – حالة ربيع و العربي.
**
في الحلم عند ربيع أو عند العربي لا وجود لشيء اسمه الوطن، و رغم أن في اسمي الشخصيتين ما يحيل مباشرة أو بكيفية غير مباشرة إلى العروبة، فليس لديهما أي اهتمام أو انشغال بالمعاني الكبرى للعروبة و القومية. و إذا كانت أمريكا تحضر أكثر من مرة عبر ثنايا الشريط، فإنها تحضر أساسا على مستوى الكلام. تحضر كصورة ذهنية كلامية. "اختك ماكاين غير الميريكان" " يلا كنا غنشطحو غنشطحو اللهم للميريكان أحسن"... نحن هنا أبعد ما نكون عن بطل فيلم "أمريكا أمريكا" لإيليا كازان. و الحلم الأمريكي لم يعد حلما يغري أو يحفز على الفعل، على العمل؛ بقدر ما تحول عند شخوص الشريط إلى حلم يغري أساسا بـ "الكلام"، بالموت البطيء كما ترمز إلى ذلك السجائر الأمريكية. و لأن الشخصيات هنا عاجزة عن الفعل، و لأنها تعيش أحلامها فقط على مستوى الكلام، و لأن قوة الصور تتجاوز في واقعيتها المزعومة، قوة الكلمة، فإن العربي لا يكتفي باختلاق قصة إقامته ببلجيكا، لأن هذه القصة بحاجة إلى دعامة قوية تقدمها الصورة الفوتوغرافية: صورة أولى يعتبرها صورة له ملاكما في بلجيكا، و صورة ثانية لامرأة يزعم أنها زوجته البلجيكية. كل ذلك ليس سوى خدعة، فهذه الصور الماكرة هي هنا لتخفي الحقيقة،حقيقة إقامة العربي بالسجن، لذا كان عليه أن يلوذ بالصورة ليحول فشله - السجن – إلى نجاح أو انتصار – الهجرة و الفحولة- و في الأمر ما فيه من بعد تعويضي واضح للصورة الفوتوغرافية.  
  و أعتقد أن هنا واحدا من أهم عناصر الخطاب الموجه إلى مشاهد الفيلم: كل صورة هي صورة موجهة، غير بريئة، تقوم على لعبة التباس حادة بين ما تقدمه و ما تخفيه. علينا أن نحذر الصورة لأنها لا تفصح عن شيء إلا لتخفي أشياء أخرى. إنها نتيجة عملية ذهنية و تقنية انتقائية كما تبرز ذلك بوضوح تلك الصور التي نشاهدها على الشاشة الصغيرة خلال انتظار اللجنة المانحة للرخص. و هذه العملية الذهنية و التقنية ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند قراءة الصورة.
  بعبارة أخرى، إن ما نشاهده أمامنا في "باي باي سويرتي" ليس سوى لعبة متوالدة لظلال و أشباح و أقنعة داخلها يكون الواقع شيئا هاربا على الدوام. و داخل هذه اللعبة يكون علينا أن نسائل مفاهيم مألوفة لنا شأن مفهوم الهوية. إننا لا نستطيع أن نعرف بالتأكيد من هو "ربيع". عندما يظهر أمامنا على الشاشة لأول مرة داخل الفندق نجده في حيرة من أمره على إثر خدعة تعرض لها من صديق له. إنه ليس هو. و يتأكد هذا الانتفاء للهوية حين يظهر ربيع في زي أنثى به يتحول اسمه من "ربيع" إلى "حنان". و جمهور "السويرتي" يعرف أنه ليس أنثى و مع ذلك فهو يحب أن يصدق ما يشاهده. ففي الفرجة تضيع الحقيقة أو تتأسس الحقيقة من خلال ضياعها. و هذا ما يحاول الفيلم أن ينفيه حين يقودنا خلف الكواليس لنشاهد شيئا آخر، ذلك أن الإنسان ليس في نهاية المطاف غير ما به يظهر أمام الآخرين، بذلك يحضر متعددا بتعدد كيفيات تمظهره.
**
  داخل هذا الفضاء القاحل، الجاف، و من صلب هذه الفظاظة القاسية، كان ينبغي أن تنبع، بشكل ما، علاقة حب، واحة الأمل الوحيدة داخل قيظ الصحراء. و هذا ما يمكن أن يكون في معنى العلاقة بين "ربيع" و "نزهة" المعلمة. في هذه العلاقة المتعددة الأبعاد لن أقف هنا إلا عند   اللحظة التي يكتشف خلالها ربيع، في بيت نزهة، أثناء استضافتها له، صورة فوتوغرافية لشخص زعمت أنها كانت على ارتباط به، بما يعني أن ما يفسر انجذابها لربيع أنه مجرد نسخة لنسخة هي الصورة الفوتوغرافية.  ظل لظل. إن المعلمة لا تحب إنسانا من لحم و دم، ذلك أن هذا الحب غير ممكن، و هي في هذا تكمل ما وجدناه من شغف بالصورة عند العربي. إنهما يشتركان في عجزهما عن إقامة تواصل إنساني حقيقي. إن الصورة لديهما هي بمثابة تميمة أو "فتيشة" توضع في مكانة أرقى من المكانة التي يحتلها الإنسان. إننا نفكر و نعشق و نحلم بواسطة الصورة. لم يعد هناك من حب خام مثلما لم يعد هناك من حلم خام. موت الإنسان؟ ربما. ذلك أن الإنسان الحقيقي لا وجود له. إنه "مات أو غرق" حسب تعبير نزهة. و وحدها الصورة توجد كنظام زائف يساهم في تأكيد عزلة الإنسان و آلامه و قلقه. أليس هذا هو الدور الذي يؤديه في الفيلم ذلك الفتى الصامت – قريب نزهة – الذي لا يرى العالم إلا عبر آلة التصوير؟ إنه عاجز عن الكلام لأنه يحول فكره و مشاعره من الإنسان و العالم إلى الواسطة، و هذا الأمر يذكر بفيلم "كيكا" (1994) لبدرو ألمودوفار حيث الصورة تغدو بؤرة للشذوذ و تضخم الوهم.
المخرج المغربي داود اولاد السيد

  و إلى جانب لعبة الالتباس التي أشرت إلى بعض جوانبها، يمكن الحديث في الفيلم عن لعبة توزيعية غنية بين سائر عناصر و مكونات الفيلم من جهة، و بين الفيلم في علاقته بالمشاهد من جهة ثانية. يتعلق الأمر ببنية يحيل كل عنصر فيها إلى الكل. و يفسر الكل – الفيلم – بدوره كل العناصر المتناثرة للبنية. هكذا حين نكتشف مع ربيع بل ومع العربي نفسه، حين نكتشف زيف الصورة الفوتوغرافية، نشعر كمشاهدين أن هناك تنبيها لنا كي نحذر ما نشاهده أمامنا على الشاشة. بل يمكن القول إن هذا التحذير هو بمثابة الروح المبثوثة بين كل ثنايا الفيلم و عبر أدق تفاصيله. ذلك أن علينا أن نضع الصورة في منزلتها الحقيقية. إنها مجرد وهم. وهم لا ينبغي "فيتشته". لذلك تدخل عملية الإخراج الفيلمي في "باي باي سويرتي" ضمن إستراتيجية سينمائية مغايرة لإستراتيجية السينما السائدة. هذه الإستراتيجية التي تبلغ أوجها في أفلام من فصيلة "تيتانيك" حيث يجد المتفرج ذاته كمن ألقي عليه القبض بالكامل داخل كماشة رهيبة تستولي عليه بلا رحمة أو رأفة.
  في "باي باي سويرتي" كل شيء يميل نحو القضاء، أو على الأقل، نحو الحد من العواطف و الانفعالات المجانية. و الصور الملتقطة غالبا ما تكون ذات بعد تركيبي يستدعي جهدا بصريا يعمل على التأليف بين الإنسان و الطبيعة و التقنية.
  و إذا كان الإنسان يعيش عزلته فذلك يحدث داخل فضاء له خصوصيته، داخل ثقافة. الإنسان نتاج ثقافة، لذلك لا تكاد تجد في الفيلم من لقطات جد مكبرة أو جد قريبة، للشخصيات. و لذلك كم نجد كاميرا اولاد السيد عاشقة للمكان !! عشق حنيني نخاله يسأل عبر كل لقطة: كيف بالإمكان أن نصدق أن هذه الفضاءات التي أبدعها الإنسان، تحمل بين طياتها كل هذه الجراح؟ غير أن الإنسان كما تقدمه صور الفيلم ليس سيد فضاءاته. إنه يبدو مسحوقا داخلها كما في اللقطات الغاطسة لـ "قاسم" سواء في المشهد الذي يتلو الجنيريك مباشرة حيث يظهر تارة من الأعلى و طورا عبر قضبان في وضع أشبه ما يكون بوضعية السجين، أو داخل مخدعه المتنقل.
  إن الكاميرا في "باي باي سويرتي" تكاد تلتهم المكان. إنها متيمة بالمكان. لذلك تلجه من كل الزوايا الممكنة، و خاصة من الزوايا غير المألوفة للمشاهدة، في صمت يبدو في غالب الأحيان بمثابة فسحة للتأمل، لكنه يبدو أحيانا كما لو كان صمتا جنائزيا شاهدا ببرودة قاتلة على المآل الصعب للشخصيات.
  و كما يرفض داوود اولاد السيد أن يصور الإنسان بمعزل عن فضاءاته، فهو يرفض بالمثل أن يصوره و قد رحل إلى غير رجعة بعيدا عن هذه الفضاءات. لذلك، حين تختطف الموت قاسم بعدما صرعه المرض نحس كأن الكاميرا تخجل من الاقتراب منه. غير أن المشاهد كان قد تعرف قبل مصرعه، في لقطة مؤثرة من لقطات الفيلم، على مرقده المتوقع، القبر. عبر تصويره للقبر، الذي يبدو من خلال الحوار أنه قبر الأم، يقوم المخرج بتحقيق استباق فني نابع من فلسفة للمكان يمكن اختزالها في العبارة التالية: يفنى الإنسان و يبقى المكان. يبقى شاهدا على أن شخصا ما قد مر من هنا؛ مما يعطي للمكان/الشهادة بعدا أنطولوجيا و أخلاقيا بالغ الأهمية، و مما يعمق إحساسنا التراجيدي تجاه نهاية قاسم: موته وضياعه في اللامكان.
  "باي باي سويرتي" استعارة مكثفة للوجود الإنساني و للإبداع في الوقت ذاته. في هذا السياق يمكن النظر إلى علاقة قاسم بابنه العربي من زاويتين: من زاوية علاقة الأبوة و قد رأينا أنها علاقة صراع شرس، و رغبة معلنة في التدمير، و لكن أيضا من زاوية إبداعية بوصفها استعارة لعلاقة المبدع بإبداعه. و لست أوافق الرأي القائل بأن حالة القلق و العزلة و السقم التي يعاني منها قاسم مرتبطة أساسا بانقراض فنه، أو بميله إلى الانقراض، فليس هنا مرة أخرى غير المظهر الخادع الذي يقدمه المستوى السطحي للفيلم. قاسم أكثر من ذلك يقدم مثالا عن الحرقة الداخلية للفنان بمعزل عن جمهوره، ذلك أن الحياة الحقيقية للفنان توجد هناك، بعيدا، بمعزل عن الأعين، بينما الأثر الفني شيء آخر، قد يكون مغايرا بإطلاق. و في هذه المغايرة المتجددة يكمن، ربما، جانب من سحر الفن و فتنته و إدهاشه.
  و إذا كنت قد عبرت في البداية عن اختلافي مع المخرج داوود اولاد السيد حول مسألة بساطة الحكاية، فلكي أنتهي إلى تأكيد ما انتهى إليه أيضا أكثر من مرة، و هو أن الحكاية هي مجرد مبرر، و توضيح ذلك لا يتم إلا في إطار ما اعتبرته لعبة التباسية تبدو الحكاية مجرد مظهر خادع من مظاهرها. ذلك أن ما يهم في نهاية المطاف هو الصورة. و المخرج هنا يستغل لعبة "السويرتي" كذريعة ليطرح مسألة علاقته هو بالصورة. أليس هو نفسه مصورا فوتوغرافيا في الأصل؟
  غير أن الحكاية ليست هي السيناريو. و إذ ألح على التمييز بين الاثنين فلكي أبرز أن بذور اللعبة الإخراجية، و غنى هذه اللعبة، كل ذلك يجد جانبا من تفسيره في السيناريو الدقيق الذي اشترك في كتابته بإيحائية شاعرية عذبة، و بعمق أدبي، و بحس سينمائي طليعي، مبدعان ترك كل منهما بصماته في الشريط، أقصد كلا من أحمد البوعناني و يوسف فاضل. و هذا العمق الأدبي بالخصوص هو الذي يجعلنا نكتشف خلف القساوة الطاعنة في الفيلم مرونة و طيبوبة إنسانية مؤثرة كما عند العربي الذي تنبعث من أعماقه، في لحظة خاصة داخل الحانة، رقة مختزنة على إثر اختفاء أبيه.
  ثم إن البنية العامة للفيلم تخفي، رغما عن طابعها الدائري الظاهر، بنية أخرى ميالة إلى الانفتاح. فإذا كنا ننطلق، في بداية الشريط، من فضاء ضيق، غرفة قاسم داخل الفندق، فلكي ينتهي بنا الأمر، في نهايته، عند عتبة مفتوحة على كل الاحتمالات، لتكون النهاية بذلك بداية جديدة، إذ في العمق ينبغي التضحية بشيء ما كي تستمر الحياة.
  ختاما أحب أن أنوه هنا بالأداء الجيد للثلاثي حسن الصقلي، محمد بسطاوي و عبدالله ديدان، كما أحب أن أنوه من جديد بالمقدرة الكبيرة لدى المخرج داوود اولاد السيد على التحكم في سرده الفيلمي مما جعل من باكورته السينمائية المطولة عملا فنيا متميزا نأمل أن تعمل على إغنائه و تطويره التجارب المقبلة.
----------------------------------
هوامش:

1-    نشرت بجريدة "الاتحاد الاشتراكي" بتاريخ 24 أكتوبر 1999. 
باي باي سويرتي لداوود اولاد السيد أو مسافات اللعب و الوهم - نورالدين بوخصيبي Reviewed by Nouredine Boukhsibi on أبريل 05, 2017 Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.